الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ثُمَّ نَقَلَ الْحَافِظُ عَنِ الْكِرْمَانِيِّ إِيرَادًا بِمَعْنَى إِشْكَالِ الْإِسْمَاعِيلِيِّ مُوَضَّحًا. وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ إِذَا مُسِخَ وَأُلْقِيَ فِي النَّارِ لَمْ تَبْقَ الصُّورَةُ الَّتِي هِيَ سَبَبُ الْخِزْيِ، فَهُوَ عَمَلٌ بِالْوَعْدِ وَالْوَعِيدِ مَعًا، وَثَانِيهِمَا أَنَّ الْوَعْدَ كَانَ مَشْرُوطًا بِالْإِيمَانِ، وَإِنَّمَا اسْتَغْفَرَ لَهُ وَفَاءً بِمَا وَعَدَهُ، فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ.وَأَقُولُ: إِنَّ مَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى وَعَدَ إِبْرَاهِيمَ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- بِأَلَّا يُخْزِيَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُشِيرُ إِلَى دُعَائِهِ الَّذِي حَكَاهُ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ فِي سُورَةِ الشُّعَرَاءِ، ومنه: {وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالًا وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} [26: 86- 89] وَأَمَّا وَعْدُ اللهِ تَعَالَى إِيَّاهُ بِذَلِكَ فَلَا نَعْرِفُهُ إِلَّا مِنَ الْحَدِيثِ، فَهُوَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيْهِ بِأَنَّهُ اسْتَجَابَ لَهُ هَذَا الدُّعَاءَ بِشَرْطِهِ الْمَعْلُومِ مِنَ الدِّينِ بِالضَّرُورَةِ، وَهُوَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى لَا يَغْفِرُ لِمَنْ يُشْرِكُ بِهِ. وَتَأَمَّلْ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي خَاتِمَةِ الدُّعَاءِ: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} فَهُوَ مِنْ دَقَائِقِ الرَّقَائِقِ.وَأَمَّا اسْتِدْلَالُ الألوسي تَبَعًا لِغَيْرِهِ بِحَدِيثِ: «لَمْ أَزَلْ أُنْقَلُ مِنْ أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ إِلَى أَرْحَامِ الطَّاهِرَاتِ» عَلَى إِيمَانِ آبَاءِ النَّبِيِّ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- مِنْ عَبْدِ اللهِ (أَوَّلِهِمْ) إِلَى آدَمَ عليه السلام فَهُوَ مُعَارَضَةٌ لِظَاهِرِ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِحَدِيثٍ وَاهٍ رَوَاهُ أَبُو نُعَيْمٍ فِي الدَّلَائِلِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ بِلَفْظِ: «لَمْ يَلْتَقِ أَبَوَيَّ فِي سِفَاحٍ، لَمْ يَزَلِ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ يَنْقُلُنِي مِنْ أَصْلَابٍ طَيِّبَةٍ، إِلَى أَرْحَامٍ طَاهِرَةٍ، صَافِيًا مُهَذَّبًا لَا تَنْشَعِبُ شُعْبَتَانِ إِلَّا كُنْتُ فِي خَيْرِهِمَا» هَكَذَا فِي نُسْخَةِ الدَّلَائِلِ الَّتِي بِأَيْدِينَا. وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ عَنْهُ بِلَفْظِ: «مِنَ الْأَصْلَابِ الطَّيِّبَةِ إِلَى الْأَرْحَامِ الطَّاهِرَةِ» بِالتَّعْرِيفِ، وَلَا نَعْرِفُهُ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ الألوسي عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْمُحَدِّثِينَ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُهُ بِهَذَا اللَّفْظِ مَنْ لَا يَتَحَرَّوْنَ نَقْلَ الْأَحَادِيثِ بِضَبْطِ مُخْرِجِيهَا، بَلْ يَتَسَاهَلُونَ بِنَقْلِهَا حَيْثُ وَجَدُوهَا كَكَثِيرٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُتَكَلِّمِينَ. وَقَدْ سَبَقَ الْفَخْرُ الرَّازِيُّ الألوسي إِلَى ذِكْرِهِ بِهَذَا اللَّفْظِ مِنْ غَيْرِ عِزْوٍ وَلَا ذِكْرٍ لِاسْمِ الصَّحَابِيِّ الَّذِي رَفَعَهُ كَعَادَتِهِ. وَاللَّفْظُ الْمَرْوِيُّ لَا مَعْنًى لَهُ إِلَّا كَوْنَ آبَائِهِ صلى الله عليه وسلم وُلِدُوا مِنْ نِكَاحٍ لَا مِنْ سِفَاحٍ، وَهُوَ مَعْنًى صَحِيحٌ وَرَدَتْ فِيهِ أَحَادِيثُ أُخْرَى، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُ رُوِيَ بِاللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَاهُ لَاحْتَمَلَ هَذَا الْمَعْنَى أَيْضًا، وَكَانَ حَمْلُهُ عَلَيْهِ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقُرْآنِ، وَالْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ أَوْلَى مِنْ جَعْلِهِ أَصْلًا وَإِرْجَاعِهَا إِلَيْهِ بِالتَّأْوِيلِ وَالتَّكَلُّفِ. وَالَّذِي خَرَّجَهُ إِنَّمَا جَعَلَهُ فِي دَلَائِلِ طِهَارَةِ نَسَبِهِ لَا إِيمَانِ أُصُولِهِ.وَمِمَّا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ مِنَ الدَّلَائِلِ فِي مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ} [26: 219] لِقَوْلِ بَعْضِهِمْ: إِنَّ مَعْنَاهُ فِي أَصْلَابِ الطَّاهِرِينَ أَيِ الْمُؤْمِنِينَ، وَرَوَى أَبُو نُعَيْمٍ أَنَّهُمُ الْأَنْبِيَاءُ، وَيُبْطِلُ ذَلِكَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُعَارَضَةِ، وَقَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ الْآيَةِ: {الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ} [26: 218] أَيْ: وَيَرَى تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ، فَهُوَ لَا يَحْتَمِلُ الْمَاضِيَ، وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَغَيْرُهُ: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ فِي الصَّلَاةِ، وَيَرَى تَقَلُّبَكَ فِي الْمُصَلِّينَ أَيْ مَعَهُمْ وَبَيْنَهُمْ. وَمَا رُوِيَ عَنْهُ مِنْ أَنَّ الْمَعْنَى تَقَلُّبُهُ مِنْ صُلْبِ نَبِيٍّ إِلَى صُلْبِ نَبِيٍّ حَتَّى أَخْرَجَهُ نَبِيًّا- لَا يَصِحُّ سَنَدًا وَلَا مَتْنًا وَلَا لُغَةً. وَتَفْصِيلُ ذَلِكَ سَيَأْتِي فِي مَحِلِّهِ.وَأَمَّا الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُعَارَضَةُ لِحَدِيثِ أَبِي نُعَيْمٍ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي سِيَاقِ الْكَلَامِ غَيْرَ حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ فِي مَسْخِ آزَرَ فَأَهَمُّهَا مَا وَرَدَ فِي أَبَوَيِ الرَّسُولِ الطَّاهِرَيْنِ- صَلَّى الله عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ- فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ مِنْ حَدِيثِ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ أَنَّ رَجُلًا قَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ أَبِي؟ قَالَ: «فِي النَّارِ» قَالَ: فَلَمَّا قَفَّا الرَّجُلُ دَعَاهُ فَقَالَ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» قَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِهِ: فِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ عَلَى الْكُفْرِ فَهُوَ فِي النَّارِ، وَلَا تَنْفَعُهُ قُرَابَةُ الْمُقَرَّبِينَ، وَفِيهِ أَنَّ مَنْ مَاتَ فِي الْفَتْرَةِ عَلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ الْعَرَبُ مِنْ عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَلَيْسَ هَذَا مُؤَاخَذَةً قَبْلَ بُلُوغِ الدَّعْوَةِ، فَإِنَّ هَؤُلَاءِ كَانَتْ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ، وَقَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» هُوَ مِنْ حُسْنِ الْعِشْرَةِ لِلتَّسْلِيَةِ بِالِاشْتِرَاكِ فِي الْمُصِيبَةِ. وَمَعْنَى قَفَّا وَلَّى قَفَاهُ مُنْصَرِفًا. انْتَهَى. وَوَرَدَ حَدِيثٌ مِثْلُهُ فِي أُمِّهِ صلى الله عليه وسلم أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ.وَرَوَى مُسْلِمٌ أَيْضًا مِنْ طَرِيقِ مَرْوَانَ بْنِ مُعَاوِيَةَ، عَنْ زَيْدِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي حَازِمٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لِأُمِّي فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ أَنْ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي» وَرَوَاهُ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ عُبَيْدٍ بِلَفْظِ: «زَارَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم قَبْرَ أُمِّهِ، فَبَكَى وَأَبْكَى مَنْ حَوْلَهُ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: اسْتَأْذَنْتُ رَبِّي فِي أَنْ أَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَلَمْ يَأْذَنْ لِي، وَاسْتَأْذَنْتُهُ فِي أَنَّ أَزُورَ قَبْرَهَا فَأَذِنَ لِي فَزُورُوا الْقُبُورَ، فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ» وَذَكَرَ النَّوَوِيُّ أَنَّ هَذِهِ الرِّوَايَةَ وُجِدَتْ فِي نُسَخِ الْمَغَارِبَةِ دُونَ الْمَشَارِقَةِ، وَلَكِنَّهَا تُوجَدُ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأُصُولِ فِي آخِرِ كِتَابِ الْجَنَائِزِ وَيُضَبَّبُ عَلَيْهَا، وَرُبَّمَا كُتِبَتْ فِي الْحَاشِيَةِ. وَذَكَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ رَوَاهُ مِنْ هَذِهِ الطَّرِيقِ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ مَاجَهْ، وَرِجَالُهُ عِنْدَهُمْ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، قَالَ: فَهُوَ حَدِيثٌ صَحِيحٌ بِلَا شَكٍّ.وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ: فِيهِ جَوَازُ زِيَارَةِ الْمُشْرِكِينَ فِي الْحَيَاةِ وَقُبُورِهِمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ؛ لِأَنَّهُ إِذَا جَازَتْ زِيَارَتُهُمْ بَعْدَ الْوَفَاةِ فَفِي الْحَيَاةِ أَوْلَى، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا} [31: 15] وَفِيهِ النَّهْيُ عَنْ الِاسْتِغْفَارِ لِلْكُفَّارِ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ رَحِمَهُ اللهُ: سَبَبُ زِيَارَتِهِ صلى الله عليه وسلم قَبْرَهَا أَنَّهُ قَصْدُ الْمَوْعِظَةِ وَالذِّكْرَى بِمُشَاهَدَةِ قَبْرِهَا، وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم فِي آخِرِ الْحَدِيثِ: «فَزُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُكُمُ الْمَوْتَ» انْتَهَى. فَهَذَا كَلَامُ أَهْلِ السُّنَّةِ.وَقَدْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ الْمَأْثُورِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِمَا مِنْ عِدَّةِ طُرُقٍ، أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ} [9: 113، 114] نَزَلَتْ فِي هَذِهِ الْوَاقِعَةِ. وَلَكِنْ رَوَى الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا أَنَّهَا نَزَلَتْ لَمَّا عَرَضَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَبِي طَالِبٍ عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ يَقُولَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ لِيُحَاجَّ لَهُ بِهَا أَوْ يُجَادِلَ عَنْهُ أَوْ يَشْفَعَ لَهُ بِهَا، وَكَانَ عِنْدَهُ أَبُو جَهْلٍ، فَجَعَلَ يَقُولُ لَهُ: أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟ فَقَالَ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ إِنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَهَا، فَحِينَئِذٍ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «وَاللهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ» فَأَنْزَلَ اللهُ: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ} [9: 113] إِلَخْ. وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لِرَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} [28: 56] قِيلَ فِي تَفْسِيرِ {مَنْ أَحْبَبْتَ} مَنْ أَحْبَبْتَ هِدَايَتَهُ. وَقِيلَ: مَنْ أَحْبَبْتَهُ بِقَرَابَةٍ وَنَحْوِهَا.قَالَ الْحَافِظُ عِنْدَ شَرْحِ هَذَا الْحَدِيثِ مِنْ كِتَابِ التَّفْسِيرِ فِي الْبُخَارِيِّ حِينَ ذَكَرَهُ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْقَصَصِ: وَفِيهِ إِشْكَالٌ؛ لِأَنَّ وَفَاةَ أَبِي طَالِبٍ كَانَتْ بِمَكَّةَ قَبْلَ الْهِجْرَةِ اتِّفَاقًا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَتَى قَبْرَ أُمِّهِ لَمَّا اعْتَمَرَ. فَاسْتَأْذَنَ رَبَّهُ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَهَا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ، وَالْأَصْلُ عَدَمُ تَكَرُّرِ النُّزُولِ، ثُمَّ ذَكَرَ الرِّوَايَاتِ فِي ذَلِكَ عَنِ الْحَاكِمِ، وَابْنِ أَبِي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَيِّ، وَالطَّبَرَانِيِّ، ثُمَّ قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ نُزُولُ الْآيَةِ تَأَخَّرَ وَإِنْ كَانَ سَبَبُهَا تَقَدَّمَ، وَيَكُونُ لِنُزُولِهَا سَبَبَانِ: مُتَقَدِّمٌ وَهُوَ أَمْرُ أَبِي طَالِبٍ، وَمُتَأَخِّرٌ وَهُوَ أَمْرُ آمِنَةَ. وَيُؤَيِّدُ تَأْخِيرَ النُّزُولِ مَا سَيَأْتِي فِي تَفْسِيرِ بَرَاءَةَ (9: 80) مِنِ اسْتِغْفَارِهِ صلى الله عليه وسلم لِلْمُنَافِقِينَ حَتَّى نَزَلَ النَّهْيُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي تَأْخِيرَ النُّزُولِ وَإِنْ تَقَدَّمَ السَّبَبُ، وَيُشِيرُ إِلَى ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُهُ فِي حَدِيثِ الْبَابِ: وَأَنْزَلَ اللهُ فِي أَبِي طَالِبٍ: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ} [28: 56] لِأَنَّهُ يُشْعِرُ بِأَنَّ الْآيَةَ الْأُولَى نَزَلَتْ فِي أَبِي طَالِبٍ وَفِي غَيْرِهِ، وَالثَّانِيَةُ نَزَلَتْ فِيهِ وَحْدَهُ. انْتَهَى. ثُمَّ أَيَّدَ الْحَافِظَ تَعَدُّدَ النُّزُولِ بِرِوَايَاتٍ أُخْرَى فِيمَنِ اسْتَغْفَرَ لِوَالِدَيْهِ الْمُشْرِكَيْنِ وَمَنِ اسْتَأْذَنَ فِي ذَلِكَ، وَمَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الصَّحَابَةَ كَانُوا يَقُولُونَ فِي الْآيَةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُكْمٍ وَقَعَ لَهُ عِدَّةَ أَسْبَابٍ: إِنَّهَا نَزَلَتْ فِي تِلْكَ الْأَسْبَابِ، أَيْ نَزَلَتْ مُبَيِّنَةً لِحُكْمِ اللهِ فِيهَا وَإِنَّ تَأَخَّرَتْ عَنْهَا، وَسَيَأْتِي تَحْقِيقُ هَذِهِ الْمَسَائِلِ فِي مَحَلِّهَا إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى.وَمِنْ غَرِيبِ التَّعَصُّبِ لِلرَّأْيِ أَنَّ السُّيُوطِيَّ حَاوَلَ فِي بَعْضِ رَسَائِلِهِ إِعْلَالَ أَحَادِيثِ الزِّيَارَةِ، فَزَعَمَ أَنَّهُ لَمْ يَرْوِهَا أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الصِّحَاحِ وَلَا السُّنَنِ، وَحَصَرَ رِوَايَتَهَا فِي الْحَاكِمِ وَأَحْمَدَ وَسَائِرِ مَنْ ذَكَرَ شَيْخُهُ الْحَافِظُ بْنُ حَجَرٍ فِي شَرْحِ الْبُخَارِيِّ وَأَشَرْنَا إِلَيْهِ آنِفًا، كَأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهَا لَوْ كَانَتْ فِي الصِّحَاحِ أَوِ السُّنَنِ لَمَا اقْتَصَرَ الْحَافِظُ عَلَى مَنْ ذَكَرَ مِنْ مُخْرِجِيهَا مَعَ مَا عُرِفَ مِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ يَذْكُرُ جَمِيعَ طُرُقِ الْحَدِيثِ أَوْ أَقْوَاهَا، وَفَاتَهُ أَنَّهُ إِنَّمَا أَرَادَ هُنَا ذِكْرَ مَا ثَبَتَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ مِنْ أَحَادِيثِ الزِّيَارَةِ، وَمَا رَوَاهُ مُسْلِمٌ وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ فِيهَا لَيْسَ فِيهِ ذِكْرُ نُزُولِ الْآيَةِ فِي ذَلِكَ، وَلَكِنْ أَيْنَ حِفْظُ السُّيُوطِيَّ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى؟ أَلَيْسَ أَهْوَنُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ هَذَا الْإِنْكَارُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ حَافِظًا لِلصِّحَاحِ وَالسُّنَنِ حِفْظًا، وَإِنَّمَا كَانَ يُرَاجِعُ الْكُتُبَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَيَنْقُلُ مِنْهَا نَقْلًا؟.وَمِمَّا ذَكَرَ السُّيُوطِيُّ فِي التَّقَصِّي مِنْ حَدِيثِ: «إِنَّ أَبِي وَأَبَاكَ فِي النَّارِ» أَنَّ الْمُرَادَ بِأَبِيهِ فِيهِ عَمُّهُ أَبُو طَالِبٍ، وَفِي حَدِيثِ عَرْضِ كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ عَلَى أَبِي طَالِبٍ مَا يُبْطِلُ دَعْوَاهُ إِيمَانَ جَمِيعِ آبَاءِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ أَنَّ آخَرَ مَا قَالَهُ أَبُو طَالِبٍ أَنَّهُ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ. فَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ مِلَّةَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ تُنَافِي كَلِمَةَ التَّوْحِيدِ الَّتِي هِيَ عُنْوَانُ الْإِسْلَامِ.وَمِنْهُ زَعْمُهُ أَنَّ الْحَدِيثَ قَدْ نُسِخَ، وَلَعَلَّهُ نَسِيَ قَوْلَ الْأُصُولِيِّينَ أَنَّ الْأَخْبَارَ لَا تُنْسَخُ، وَلَا نَقُولُ: إِنَّهُ جَهِلَهُ، فَقَدْ قَرَّرَهُ فِي الْإِتْقَانِ تَقْرِيرًا، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ إِطْلَاقَ كَلِمَةِ الْأَبِ عَلَى الْعَمِّ مَجَازٌ لَا يَصِحُّ فِي اللُّغَةِ إِلَّا بِقَرِينَةٍ مَانِعَةٍ مِنْ إِرَادَةِ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ، وَسِيَاقُ الْحَدِيثِ يُعَيِّنُ الْمَعْنَى الْحَقِيقِيَّ، فَإِذَا جَازَ أَنْ يَكُونَ السَّائِلُ عَنْ أَبِيهِ أَرَادَ عَمَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْحَدِيثِ: «إِنَّ عَمِّي وَعَمَّكَ فِي النَّارِ».وَلَعُمْرِي إِنَّ مَنْ يَقُولُ هَذِهِ الْأَقْوَالَ لَا يُرَدُّ عَلَيْهِ، وَلَا يَصِحُّ أَنْ يُحْكَى قَوْلَهُ إِلَّا فِي مَقَامِ التَّعَجُّبِ أَوْ مَقَامِ الِاعْتِبَارِ وَالرَّدِّ، عَلَى أَنَّ بَعْضَ الْعُلَمَاءِ رَدُّوا عَلَيْهِ، وَمَعَ ذَلِكَ اغْتَرَّ كَثِيرُونَ بِمَا أَوْرَدَهُ فِي نَجَاةِ الْأَبَوَيْنِ وَمِنْ حَدِيثِ إِحْيَائِهِمَا وَإِيمَانِهِمَا الَّذِي قَالَ بَعْضُ الْحُفَّاظِ بِوَضْعِهِ، وَغَايَةُ مَا قَرَّرَهُ هُوَ أَنَّهُ ضَعِيفٌ لَا مَوْضُوعٌ، وَهُوَ مُعَارَضٌ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الصِّحَاحِ.وَمِنْهُ أَنَّهُمَا مِنْ أَهْلِ الْفَتْرَةِ، وَجُمْهُورُ الْأَشَاعِرَةِ عَلَى الْقَوْلِ بِنَجَاتِهِمْ، وَلَكِنَّهُمُ اسْتَثْنَوْا مَنْ وَرَدَ النَّصُّ بِأَنَّهُمْ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَأَقْوَى مَا قَالَهُ هُوَ وَغَيْرُهُ، وَأَرْجَاهُ مَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ فِي امْتِحَانِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِ الْفَتْرَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَنَجَاةِ بَعْضِهِمْ بِهِ، هَذَا إِذَا لَمْ يَصِحَّ مَا نَقَلْنَاهُ عَنِ النَّوَوِيِّ مِنْ جَزْمِهِ بِأَنَّ مُشْرِكِي الْعَرَبِ قَدْ بَلَغَتْهُمْ دَعْوَةُ إِبْرَاهِيمَ وَغَيْرِهِ، وَفِيهِ بَحْثٌ سَيَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إِنْ شَاءَ اللهُ تَعَالَى، وَإِذَا حَقَّ نَجَاةُ الْأَبَوَيْنِ الطَّاهِرَيْنِ بِالِامْتِحَانِ يَكُونُ مَا وَرَدَ فِيهِمَا خَاصًّا بِمَا قَبْلَ الِامْتِحَانِ.
|